تاريخ دراسة الذكاء

  



تاريخ اهتمام الانسان بالذكاء قديم جدًا فقد ذكر أفلاطون على لسان استاذه ارسطو في محاورة ( الجمهورية ) نظرية حول القدرات العقلية ، تفترض هذه النظرية ان الناس مقسمين حسب قدراتهم العقلية الى ثلاث فئات

1-    الحكام و الفلاسفة

2-    القادة العسكريون

3-    العمال و الفلاحون

و هذا التقسيم محدد وراثيًا و غير قابل للتغيير مثل المعادن فالحكام من الذهب و القادة من الفضة و العمال و لفلاحين من الحديد ، و افترض ارسطو ان الذكاء يتكون من ثلاث جوانب

1-    الجانب الأول نظري يتعلق بالفهم الجوانب المجردة

2-    عملي يتصل بالمهارات العملية

3-    انتاجي يتعلق بالابتكار و الابداع

و في الحضارة الإسلامية لعل اكثر المحاولات دراسة مباشرة للذكاء هي دراسة ابن الجوزي في كتاب ( الأذكياء ) و ركز ابن الجوزي على جانبين للذكاء كعادة العرب الذين يرون الذكاء في

1-    الذكاء اللغوي

2-    حل المشكلات

حيث نرى في اكثر الكتب التي تتحدث عن الذكاء أو الفطنة قصص عن قدرة الشخص على معرفة معاني الكلمات و تركيبها و معرفة الفروق الدقيقة بينها و القدرة على التلاعب بالألفاظ ، كما توجد قصص عن قدرة الأشخاص على الخروج من المواقف الصعبة ، و ذكر ابن الجوزي علاقة التركيبات الجسمية بالذكاء و هو ما يعرف في الغالب بالفراسة .

في الغرب ابان العصور الوسطى 

لم يكن هناك شيء واضح و صريح لدراسة الذكاء سوا محاولات لفلاسفة تحاول الربط بين العقل و الدين و كيفية استخدام العقل لمعرفة الله . 

اما في عصر التنوير 

كانت الدراسات محصورة في قضية المعرفة و ايهما مصدر المعرفة هل هي الحواس ام العقل .

بدأت دراسة الذكاء الحديثة 

على ايدي طبيبين فرنسيين في نهاية القرن الثامن عشر  ، جان إيتارد ( 1775 - 1838 ) جان إتيين ( 1772 – 1840) ، حيث كان جان اتيين سكويرل أول من ميز بين المرض النفسي و التخلف العقلي و ذكر أهمية الجانب اللغوي كعامل مهم في الذكاء فأعتبر القصور اللغوي اهم مؤشرات الضعف العقلي ، أما جان ايتارد فيعتبر من المؤسسين لمجال التربية الخاصة نظرًا لخبرته و تعامله مع الطفل فكتور المتوحش .

ايضًا ظهرت دراسات فرانز جوزيف غال التي كانت تحاول بحث الذكاء من خلال شكل الجمجمة فيما يعرف بنظرية ( الفرينولوجيا ) و التي اعتبرت فيما بعد نوع من الدجل الذي لا اصل من العلم له على الرغم من انها لعبت دور مهم في توجيه علم النفس في أمريكا نحو الفروق الفردية  ، اتى بعد غال عالمين هما صامويل مورتون في أمريكا  و بول بروكا في فرنسا و على الرغم من عملهما منفصلين الا انهما اسسا ما يعرف باسم قياس الجمجمة حيث حاولا إيجاد علاقة بين حجم الجمجمة أو وزن المخ و الذكاء من ناحية أخرى و استطاعا جمع كم هائل من المعلومات و ذلك من خلال مجموعة كبيرة من الجماجم و أدمغة المرضى و الاسوياء الا ان أعمالهم و للأسف لم تخلو من القصور المنهجي الذي يعكس التحيز الايدلوجي الذي يرى ان البيض من الجنس القوقازي لهم دماغ اكبر و هم بالتالي اكثر ذكاء من الاجناس الصفراء و السوداء حيث تلاعبا في النتائج لجعلها تبدو مؤيدة لافتراضاتهما القبلية عن تفوق الجنس الأبيض فقد اغفلا عوامل كثيره مثل العمر و الطول و سبب الوفاة عند تقدير حجم المخ و ذهبا لأبعد من ذلك فعندما قام مورتن  بمقارنة حجم الدماغ بين الهنود و البيض استبعد الجماعات و القبائل الهندية الأطول و قام باستبعاد الجماعات الأقصر في عينة البيض ، و هنا تظهر بداية ما يسمى العلم الزائف الذي يظهر مملوء بالأرقام و الجداول و يأخذ مظهر الموضوعية و هو في الحقيقة يخفي تحيز مسبق و تبرير لأوضاع اجتماعية و سياسية .

1859 يحدث شيء يغير التاريخ من بعده كتاب داروين ( أصل الأنواع ) يقدم داروين في كتابه ما يعتبره دليلا على ان صفات جميع الكائنات الحية تنتقل بالوراثة ، و يتحدث عن ( الانتقاء الطبيعي ) الذي يؤكد فيه على ان البقاء للكائنات الأكثر تكيف و قدرة على تحمل الضغوط و بالتالي توريث جيناتهم لنسلهم ، و هذا يؤدي الى تزايد فرصة انتقال هذه الصفات التي مكنت الكائن من البقاء عبر الأجيال ، و هذا ما يسميه مبدأ ( بقاء الأصلح ) الذي يرى انه المحرك الحاكم للحياة و المحرك للعلاقات بين افراد النوع الواحد

ان نظرية داروين بافكارها المتضمنة لإنكار الخلق و اعتبار الصراع بين الكائنات هو اصل الحياة و تأكيد دور الوراثة في تشكيل قدرات الانسان ، تجاوزت آثار علم الاحياء لتشمل التأثير في النظريات الفلسفية في أوروبا في ذلك الوقت و في نظرة الانسان الى الدين و السياسة و التنظيم الاجتماعي ، و في الرؤية لمصادر الفروق الفردية بين الأشخاص في القدرات و المهارات و على رأسها الذكاء

ظهر مصطلح الدارونية الاجتماعية الذي تبناه ابرز علماء الاجتماع في وقتها أمثال هربرت سبنسر في إنجلترا و وليام سمنر في أمريكا و يرون ان القوة المحركة للنمو و التطور في المجتمع هي الصراع على الموارد المحدودة و بالتالي يؤدي هذا الصراع الى فرز الأشخاص الأقوى و الأكثر صلاحية للبقاء من الأشخاص  الأضعف ذوي الفرص المحدودة و استنادًا لهذا المبدأ يرى الدارونيين الاجتماعيين انه يجب وضع الافراد الأقوى و الأكثر قدرة على قيادة المجتمع في المقدمة بغض النظر عن أي اعتبارات اجتماعية او أخلاقية ، و بالتالي التقليل من دور الدولة في التدخل بالحرية الفردية بل يرون انها بتدخلها تعيق مسار الطبيعة و تطلب من الدولة عدم مساعدة الضعفاء و الفقراء لأنها ستطيل مدة بقائهم و بالتالي تعيق عملية تطور المجتمع ، حتى ان سبنسر كان يعارض أي دعم من جانب الدولة لتعليم الفقراء أو تحسين ظروفهم المعيشية او حتى حمايتهم من الاحتيال و الأخطاء المهنية التي يقع فيها الأطباء لأنه يرى ان جهد الطبيعة منصرف للتخلص من الفقراء و تنظيف العالم منهم لخلق مكان للأقوياء

ان الحديث عن هذا الجو العام في ذلك الوقت  يجعلنا ندخل في سياق التاريخ الذي يتيح لنا فهم اكبر لموضوعنا الأصلي و هو الذكاء .

يظهر غالتون في دراساته عن الذكاء و يؤكد ان الذكاء وراثي و لا يمكن تغييره او اكتسابه و لأنه احصائي بالدرجة الأولى بحث عن حساب معامل ارتباط للذكاء ، و رأى غالتون ان مصلحة المجتمع تكمن في تحسين العناصر الوراثية فيه عن طريق تشجيع تناسل الافراد ذوي القدرات العقلية او الجسمية المرغوب فيها و الحد من تناسل الافراد ذوي القدرات الغير مرغوب فيها و ابتدع غالتون مصطلح ( الايوجينية ) في عام 1883 الذي يرى فيه مدينته الفاضلة بحيث يعزل الناس الضعاف عقليا و جسديا و يتم عزلهم و منعهم من التناسل و توفير فرص اكبر لأصحاب القدرات العقلية في المجتمع .

تكلف وزارة التربية الفرنسية بينيه بتصميم و سيلة أو أداة للتعرف على الأطفال ذوي القدرات العقلية المنخفضة و ينشر بينيه مقياسه الأول في 1905 و في عام 1908 تظهر الصورة الثانية للمقياس الذي حدد فيه بينيه مستوى عمري مناسب لكل مهمة و ظهر مفهوم العمر العقلي ثم طور بينيه اختباره في عام 1911 قبل وفاته . و اعتبر بينيه ان الذكاء أكثر تعقيد من ان يحيط به رقم واحد هو نسبة الذكاء بل انه رفض إعطاء معنى للدرجة و اعتبرها مرشد فقط له هدف عملي محدود و هو التعرف على الأطفال الذين يحتاجون للمساعدة .

بعد وفاة بينيه توقف نمو المقياس في فرنسا و اتجه الى أمريكا التي كانت تعيش مرحلة الدارونية الاجتماعية و البراغماتية  ، غودارد هو من ترجم المقياس للانجليزية و لكنه على عكس بينيه كان يرى ان الذكاء احادي يمكن قياسه من هذا الاختبار فتحولت مهمة الاختبار من اكتشاف من يحتاجون المساعدة الى مقياس يهدف الى تصنيف الأشخاص و بالتالي فتح المجال لاصحاب القدرات الأعلى و عزل الأضعف ، يصنف غودارد الناس الى 3 فئات يضع في الأسفل الضعاف عقليًا و المجرمين و البغايا باعتبارهم غير قادرين على الدخول في المجتمع اما الفئة الثانية فهي عامة الناس أصحاب القدرات العقلية التي تشبه الأطفال أما الفئة الثالثة فهم الافراد مرتفعو الذكاء و عليه يقول ان الفئة الأولى يجب ابادتهم و الثانية تكون الديمقراطيه لها باختيارها من يمثلها و يقودها من فئة الاذكياء ، و لاثبات نظريته قام غودارد بتتبع شجرة عائلة العديد من الاسر لاثبات الضعف العقلي و من اشهرها عائلة Kallikak  و هي عائلة ذات فرعين رئيسيين حيث البداية من رجل تزوج امرأة ضعيفة العقل و انجب منها ثم تزوج أخرى ذكية و ثرية انجبت الفرع الثاني ، و اشتق غودارد الاسم من كلمتين في اللغة اليونانية kallos  و تعني جميل و kako التي تعني قبيح و لا داعي لتوضيح أي العائلة الجميل و أيها القبيح ، و تتبع غودارد النسل لهذه العائلة لمدة طويله ثم اصدر كتابه في عام 1912 الذي يعد مرجع للأيوجينيين لعدة قرون ، و بطبيعة الحال وجد ان أبناء الفرع القبيح اقل ذكاء و اكثر انخراط في عالم الجريمة و اكثر انحراف من الناحية الأخلاقية ، و تضمن الكتاب صور لأفراد الفرعين حيث استخدم الملامح لتعزيز و دعم فكرته ، و للأسف فانه بعد مرور سبعين سنه على الطباعه تأثر الحبر و اتضح تلاعب غودارد في الصور حيث أضاف خطوط للعيون و الحواجب و الشعر لتظهر الصور بشكل يدعم الفكر السائد عن اشكال ضعاف العقول .

كان غودارد يعمل على جبهتين الداخليه في عزل ضعاف العقول و الثانية خارجيه و هي منعهم من الوصول الى أمريكا و دعا غودارد الى تطبيق مقياس بينيه على المهاجرين الجدد و قد حصل على تمويل لزيارة جزيرة اليس التي كان المهاجرين ينزلون فيها أولا ليتم فحصهم و اجرى الاختبار في ظروف سيئة حيث لم يقدر التعب الذي حصل للمهاجرين من رحلة البحر الطويلة كما انهم لا يتحدثون الإنجليزية و اسفرت اختباراته عن رفع نسبة ترحيل المهاجرين الى اضعاف ما كانت عليه في عام 1914 .

في نفس الفترة التي ظهر فيها غودارد ظهر تيرمان الأستاذ في جامعة ستانفورد الذي كان له الفضل في تطوير مقياس بينيه و انتشاره بالاسم المعروف حاليا مقياس ستانفورد بينيه ، و كان الهدف عند تيرمان هو نفسه هدف غودارد عزل الضعاف عقليا و منعهم من التناسل و قد وضع تيرمان نسب لتحديد درجة الذكاء الضرورية للنجاح في بعض المهن ، انتقل تيرمان من تصنيف الافراد الى تصنيف الطبقات الاجتماعية و الاجناس و الأعراق و بطبيعة الحال يرى ان البيض اعلى المراتب و السود في اسفلها  .

كان المقياس اخذ شهرته بين مجتمع علم النفس الى ان جاء يركز Yerks الذي نقل المقياس الى نطاق أوسع  حيث كان يريد نشر و اثبات أهمية علم النفس الحديث وقتها و جعله علم جدير بالاحترام و أتت الفرصة اثناء تجهيز أمريكا لجنودها استعدادًا للحرب العالمية الأولى استغل يركز هذه الفرصة لاثبات القيمة التطبيقية لعلم النفس اذ تمكن من اقناع المسؤولين في الجيش بقياس ذكاء الجنود و تصنيفهم و هذا أدى الى اكبر تطبيق جماعي لقياس الذكاء في التاريخ اذ انتهى الامر بقياس ذكاء اكثر من 1.750.000 جندي امريكي  . و لم تخلو هذه الاختبارات من العديد من المشاكل و الأخطاء من حيث المحتوى او طريقة التطبيق .

قام احد طلاب يركز  و هو كارل بريغهام بتأليف كتاب ( دراسة في الذكاء الأمريكي ) لخص فيه الملامح الرئيسية لعمل يركز و جعلها سهلة يمكن ان يفهمها العامة و وضح الأساس الوراثي للذكاء الذي يرى ان البيض في قمة الهرم و السود في اسفله و اثار هذا العمل نقاش واسع في المجتمع الأمريكي ، حبث وجد انصار النظرية الوراثية تدعيم لهم في سياسة الفصل العنصري و تقليل موارد و فرص السود للالتحاق بالتعليم العالي و وجدوا فيه نفيًا للديمقراطية في مجتمع يرون ان العمر العقلي لافراده لا يتجاوز 13 سنه و لعبت هذه النتائج دور محوري في ما يعرف آنذاك بلائحة تقييد الهجرة التي أصدرها الكونغرس 1924

مع تقدم الزمن و تزايد الانتقادات التي وجهت الى مقياس الذكاء بدء بعض العلماء في التراجع عن القضايا التي يدافعون عنها ففي عام 1928 يقر غودارد بان ضعاف العقول قابلون للتعلم و لا داعي الى عزلهم في مراكز خاصة بغض النظر عن اصلهم الوراثي ، و يذكر تيرمان ان البيئة تلعب دور كبير في الذكاء , و يتراجع بيرغهام صراحة عن اختبار الجنود الامريكان و يصفه بانه يقيس مدى الاندماج بالثقافة الامريكية و اللغة و ليس الذكاء .


 

google-playkhamsatmostaqltradent